السبت، 20 سبتمبر 2025

قصة الشهيدة زينب، الشهيدة الحية = قصة واقعية

هذه قصة احد ضحايا القصف المصري على مستشقى ابها العام، والضحايا كثر.

في أحضان جبال سراة الوعرة، حيث تتسلل الرياح بين الصخور الشامخة، عاشت زينب، الأم الثكلى وابنة الجبال، في ثلاثينيات عمرها. كانت أرملة وحيدة، تعتمد في دنياها الضيقة على ابنها محمد، ذلك الفتى الذي أصبح رجل البيت قبل أوانه. هو الذي يحمي الدار، ويكرم الضيف بكرم الجبل، ويحمل على كتفيه أعباء الأسرة في المناسبات والأزمات، كأنه الريح الذي يدفع السحاب نحو الخصب.

ذات يوم، انطلقت زينب من قريتها النائية، محملة بسلة من فاكهة الجبل الطازجة – تفاح أحمر يقطر عسلاً، وعنب يهمس بأسرار السماء – متجهة إلى المستشفى في أبها. كان ابنها مصاباً بالحمى، يئن تحت وطأة المرض، فأرادت أن تشجعه على الشفاء بطعم الوطن الذي يعرفه. وصلت إليه، تضع الفاكهة بين يديه الضعيفتين، وتدعو له بالعافية في همسها الدافئ.

وفجأة، هز هدير طائرات السماء، يتردد صداه كالرعد في الوديان. أثار ذلك الدهشة في القلوب، ثم ما هي إلا ثوانٍ معدودة، وكأن القيامة قد قامت. انفجر العالم حولهم: سقطت الجدران كأوراق الخريف، وتحول المبنى إلى أنقاض تتراكم كالجبال المهدمة. غمرت رائحة البارود والدخان أنوفهم، واندفع الجميع مذعورين نحو الخروج، يصرخون في فوضى الظلام.

لكن زينب لم تتحرك. بقيت واقفة كالصخرة، تغطي ابنها بجسدها الهش، تحميه من الغبار المتساقط كالمطر السام. "يا رب، احفظ ولدي قبلي"، همست بصوت مكسور، ترفع يديها في دعاء يخترق السماء، وكأنها تعلم أن القدر ينتظر عند الزاوية.

ثم جاء الانفجار الثاني، كالصاعقة التي لا ترحم. انهار السقف فوقهما، واستشهد محمد على الفور، شهيداً في حضن أمه. أما زينب، فنُجيت بأعجوبة إلهية، لكن جسمها المنهك كان يئن تحت كسور شديدة، وكأن الجراح الجسدية مجرد صدى لجرح الروح الأعمق.

في الأيام اللاحقة، بينما كانت المستشفى تغلي بالمصابين، رفضت زينب العلاج لنفسها حتى يُشفى الآخرون أولاً. وقالت للأطباء بعيون دامعة لكن حازمة: "أنا شهيدة حية، فقد راحت روحي معه". كان محمد لها كل شيء: السند الوحيد، الضوء في الظلام، اليد التي تمتد للعائلة في كل محنة. فقدانه كان كفقدان الجبل نفسه، يترك الوديان عارية.

بعد تعافيها البطيء، عادت زينب إلى قريتها، ليس لتعيش في الندب، بل لبناء حياة جديدة. أقامت مدرسة صغيرة باسم ابنها الشهيد، ملاذاً لأيتام الغارة الذين فقدوا آباءهم في تلك الليلة السوداء. هناك، ترعاهم كأبنائها، تعلمهم أن الصبر ليس ضعفاً، بل قوة تُبنى عليها الجبال.

انتشرت قصة زينب عبر الروايات الشفوية في أبها، تتردد في المجالس والأسواق، كالنسيم الذي يحمل بذور الأمل. أصبحت رمزاً للنساء في المنطقة، نموذجاً للصبر الجليل الذي يتحدى الموت والدمار، ويزرع في القلوب إيماناً يفوق الخوف.

هذه القصص ليست مجرد ذكريات تذبل مع الزمن، بل دروس حية في الإيمان والتضحية، تُعلّم الأجيال أن الروح الطاهرة لا تموت. في أبها اليوم،  لاينسى الأهالي ذكرى الشهداء، مدركين أن الدم السعودي لا يُنسى، وأن السلام هو الثمن الوحيد للحرية الحقيقية. 

رحم الله شهداء أبها، وأسكنهم فسيح جناته، وألهم أمهاتهم وآباءهم قوة زينب الأبدية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

; أتمنى لكم قراءة ممتعة مفيده
أرحب بكل أرآكم ومقترحاتكم يرجى ذكر الاسم أو الكنية للإجابة - ونأسف لحذف أي تعليق
لا علاقة له بموضوع المقال
لا يلتزم بالأخلاق ااو الذوق العام