في أحضان جبال عسير الخضراء، حيث تتسلل نسمات الجبل الباردة إلى شوارع أبها الهادئة، ولد أحمد بن سالم، الشاب الذي كان يحمل في قلبه حباً للحياة أكبر من أي جرح يمكن أن يشفيه الدواء. كان أحمد شاباً في العشرينيات من عمره، تخرج للتو من كلية الطب بجامعة الملك سعود في الرياض، حاملاً شهادته كوسامة لسنوات من الجد والعرق. لم يتردد لحظة واحدة في العودة إلى مسقط رأسه، أبها، ليخدم أهله وأهل المنطقة في المستشفى الوحيد هناك، مستشفى أبها العام، الذي كان يُعدّ ملاذاً للفقراء والمحتاجين في تلك المناطق النائية.
كان أحمد معروفاً بين أهل المدينة بحبه للقراءة والشعر. في لياليه الطويلة، بعد يوم عمل شاق في المستشفى، كان يغوص في كتب الطب والأدب، يقرأ قصائد المتنبي وأبيات الشافعي، وكأن الكلمات تمنحه قوة إضافية ليواجه أوجاع الآخرين. لم يكن يقتصر عمله على ساعات الدوام؛ ففي الليالي الهادئة، كان يفتح أبواب عيادته للفقراء مجاناً، يعالج الجراح والأمراض دون مقابل، يقول لهم دائماً: "الطب ليس مهنة، بل رسالة". كان يرى في عيون المرضى قصصاً تلامس روحه الشعرية، فيشعر أن كل حياة ينقذها هي بيت شعر يُكتب في سجل الإنسانية.
ذات يوم، في غرفة العمليات المضاءة بأضواء الطوارئ الخافتة، كان أحمد يجري عملية طارئة لطفل صغير مصاب بحادث مروري مأساوي. الطفل، لا يتجاوز عمره السابعة، كان يئن من الألم، والدماء تغطي جسده الصغير.
كان الطاقم الطبي يعمل بتركيز شديد، والمشرط في يد أحمد يتحرك بدقة جراحية. فجأة، سمعوا صوتاً مدوياً يهز الأرض: صوت طائرة حربية تقترب فوق رؤوسهم، يصم الآذان ويجمد الدم في العروق. ارتعب المساعدون والطاقم، يتوقفون للحظة، عيونهم مليئة بالرعب من ذلك الصوت البشع الذي ينذر بالكارثة.
كانت الطائرة الحربية تطير فوق المدينة، ومستشفى أبها لم يكن بمنأى عن الوحشية.
لكن أحمد، البطل الذي لم يعرف الخوف يوماً، صاح في مساعديه بصوت حازم يقطع الرعب:
"لا تتوقفوا! الحياة أغلى من الخوف!"
كانت كلماته كالسيف، تقطع الذعر وتعيد التركيز إلى أيدي الطاقم. استمروا في العملية، يغلقون الجرح ، بينما يهز الجدران صوت الاقتراب المهدد.
وفجأة، انفجر الجناح الرئيسي للمستشفى.
دوي هائل، ثم اللهب الذي التهم الجدران، والنيران التي اندلعت كوحوش جائعة.
امتلأ المكان برائحة البارود الحارقة التي تحرق العيون وتختنق الصدور.
انقطعت الكهرباء فجأة، تغرق الغرفة في ظلام دامس، ولا يبقى سوى أصوات الصراخ والانهيار.
في تلك اللحظة، أوكل أحمد أحد مساعديه بإغلاق جرح الطفل النهائي، قائلاً:
"أكملوه، أنقذوا هذا الطفل... أنا سأعود".
ثم اندفع نحو الأبواب المحترقة، يهرع لإنقاذ الجرحى من الأجنحة المجاورة.
كان الدخان كثيفاً، والحرارة لا تُطاق، لكن أحمد لم يتوقف.
حمل ثلاثة أطفال صغار، يبكون ويتشبثون به، وأخرجهم إلى الخارج والمكان غارق في الفوضى. كان يلهث، لكنه عاد مرة أخرى، يبحث عن والدتهم التي كانت مريضة في الطابق العلوي، تقاوم مرضاً مزمناً في سريرها الهادئ قبل دقائق قليلة. "لا يمكن أن أتركها"، همس لنفسه وسط اللهب.
لم يعد أحمد. بعد ساعات من البحث في الرماد والحطام، عُثر على جسده المحترق بجانب عشرة جثامين، كان قد حاول إطفاء النار بيديه العاريتين، يحميهم من اللهب بجسده، حتى آخر نفس. كان قد أنقذ عشرات الأرواح قبل أن يلتحق بربه، شهيداً.
روت عائلة أحمد قصته في مقابلات إعلامية سعودية، مشددة على إيمانه العميق الذي كان يغذي كل خطوة له. قبل الغارة بيوم واحد، كان يقول لأمه في حديث هادئ: "إن متُّ، ففي سبيل الله". كانت كلماته نبوءة، وشهادته تاجاً لروحه النقية.
يجب أن تبقى ذكرى الشهيد أحمد بن سالم حية إلى الأبد، كرمز للإنسانية والتضحية التي تتجاوز الواجب. لقد كان أكثر من طبيب؛ كان بطلاً يستحق يوماً وطنياً يُدعى "يوم الشهيد السعودي"، يُحيى فيه إرثه كقدوة للأجيال، يذكّرنا بأن الرحمة لا تعرف الحدود، والحياة الحقيقية هي في إنقاذ الآخرين، حتى لو كان الثمن الروح نفسها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
; أتمنى لكم قراءة ممتعة مفيده
أرحب بكل أرآكم ومقترحاتكم يرجى ذكر الاسم أو الكنية للإجابة - ونأسف لحذف أي تعليق
لا علاقة له بموضوع المقال
لا يلتزم بالأخلاق ااو الذوق العام