كنتُ طفلاً في الثامنة من عمري، يوم وقعت تلك الغارة الجوية المصرية على مستشفى أبها العام في عام 1963م، أثناء حرب اليمن التي امتدت آثارها إلى أرجاء جنوب المملكة. كنا نلعب أنا وأصدقائي في الساحة الواسعة أمام منزلنا في قلب مدينة أبها، الجبلية الهادئة التي كانت تعج بالحياة اليومية البسيطة. كانت السماء صافية، والشمس تغمر الجبال بضوءها الدافئ، ونحن نركض خلف كرة مصنوعة من قماش ملفوف، نضحك ونصرخ في براءة الطفولة.
فجأة، انقطعت الضحكات. مرت فوقنا طائرات غريبة، صغيرة وسريعة، تطلق أصواتًا مدوية كالرعد. لم نعرف ما هي؛ كنا أطفالاً في قرية جبلية نادرًا ما نشهد فيها شيئًا يتجاوز رحيل الغنم أو عودة القوافل من السوق. "ما هذي الطيارات؟ وليش تطير في سماء أبها؟" سأل أحدنا الآخر، ونحن نرفع رؤوسنا مذهولين. كانت الطائرات تداري في السماء كظلال شريرة، ولم يخطر ببالنا أنها تحمل الموت.
دقائق قليلة فقط، وانفجر العالم حولنا. انفجارات شديدة هزت الأرض، كأن الجبال نفسها تنهار. ارتفعت أعمدة الدخان السوداء من اتجاه المستشفى، وامتلا الجو برائحة البارود المتفجر، تلك الرائحة الحارقة التي تخترق الحلق وتجعل العيون تدمع. كانت الصرخات تملأ الأفق، والهلع ينتشر كالنار في الهشيم. في تلك اللحظة، اندفع أبي نحونا كالريح، يجمعنا بيديه القويتين، يصرخ: "تعالوا يا ولاد، داخل الدار!" سحبنا إلى المنزل الطيني المتواضع، يغلق الأبواب خلفنا، ونحن نرتجف من الخوف، نتشبث بثيابه كالصغار الذين يبحثون عن مأوى في عاصفة.
بعد ساعات قليلة، والهدوء يعود تدريجيًا لكنه مشوب بالتوتر، سمعنا صراخًا يقترب من الجبل المجاور. خرجنا ننظر، وإذ بفتاة شابة تنزل تجري، شعثاء الشعر، لا غطاء على رأسها، ثيابها ممزقة من الركض والذعر. كانت تصرخ وتصيح بصوت مكسور، كأن قلبها ينفطر: "أمي! أمي!" كانت الدموع تسيل على وجهها المغبر، وعيناها حمراء من البكاء والصدمة.
نحوها امي بخطى سريعة،مدت يدها واحتضنتها بلطف، محاولة تهدئتها كما تفعل معنا في أيام الخوف. "اهدي، بنيتي، هدي... ما في شيء، أنتِ آمنة هنا." كانت ترتجف في حضن أمي كورقة في الريح، وهي تمسح على ظهرها، وتهمس لها كلمات الطمأنينة. اجتمع حولنا الجميع: أبي،وجيراننا الذين سمعوا الضجيج.
فلما هدأت قليلاً، وجلست على الأرض تلهث، سألناها بصوت هادئ: "ما خطبك يا بنت؟ قولي لنا، شنو صار؟"
رفعت رأسها، عيناها مليئتان بالألم، وقالت بصوت يقطع القلب: "أنا مرافقة لأمي في مستشفى أبها العام. كانت أمي مريضة، فخرجتُ من المستشفى شوي، أشتري لها بعض الحاجيات من السوق القريب.
فجأة... قصفوه! الطيارات قصفت المستشفى، والجناح اللي كانت فيه أمي انهار كله.
فقدتها... بحثت بين الحطام، لكن ما لقيتها. وأنا من قرية بعيدة في الجبال، لا أنا من أمي اللي راحت، ولا أنا من غربتي هذي اللي صارت قبر لكل شيء."
ساد الصمت للحظة، ثم اندفعت أمي نحوها، تحتضنها بحنان الأم التي فقدت ووجدت في اللحظة نفسها. "يا بنتي، رحم الله أمك وهي شهيدة بإذن الله. الله يعوضك خيرًا، ويجعل صبرك جنة. اطمئني، يا بنيتي، نحن هنا عائلتك الآن. سنوصلك إلى أهلك بالسلامة، إن شاء الله، ولو مشينا على الأقدام عبر الجبال."
في تلك الليلة، نامت الفتاة في بيتنا، ونحن نراقبها كالجوهرة الثمينة. في الصباح، أخذها أبي مع بعض الرجال إلى قريتها البعيدة، يحملون لها طعامًا وماءً، ويروون قصتها لأهلها الذين كانوا يبحثون عنها مذعورين. كانت تلك الغارة قد أخذت عشرات الأرواح في المستشفى، بما في ذلك أمها، لكنها أعادت لنا درسًا في الإنسانية: في زمن الحرب، يصبح الغرباء عائلة، والألم مشتركًا يجمع القلوب.
اليوم، بعد عقود، وأنا الأستاذ أنور بن محمد آل خليل، رئيس النادي الأدبي في أبها سابقًا، أروي هذه القصة لأذكر أجيالي بأن السلام ليس مجرد كلمة، بل هو الدرع الوحيد ضد الذكريات التي لا تنسى. رحم الله الشهداء، وأدام الله الأمان على أرضنا.
الله يرحم من قتل منهم واسكنهم فسيح جناته
ردحذف