إلى وقت قريب كان المواطن العربي يعتبر السياسة من الأمراض الخطيرة , التي تؤدي إلى الموت أحيانا ولكنها كثيرا ما تؤدي إلى السجن والتعذيب والإقصاء , ولذا كان يحرص دائما على البعد عنها , وينصح الآخرين بذلك , ولم يكن يستطيب الجلوس حيث تطرح المواضيع السياسية , متعلقا بأهداب المثل القائل " الباب اللي يجيك منه الريح . سده وأستريح ".
ولكن بعد ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا , بدأ المواطن العربي يصحوا على السياسة وينام عليها , ولم تعد السياسية بعيدة عن دائرة اهتماماته , وبدأ يسمع كثيرا عن الليبرالية والعلمانية , والإسلاميون وأسلمه السياسة وتسييس الإسلام , وغيرها , وبدأ يحاول معرفة معناها .
كثيرا ما تتردد عبارة " الإسلام السياسي " , وأكثر من يرددها هم من يقول " لا " لهذا التوجه , لا أعلم هل هم متخوفون من " أسلمه السياسة " أو من " تسييس الإسلام " .
لنبدأ أولا بوضع الأصبع على أهم اختلاف بين السياسة في العالم الغربي والسياسة في عالمنا الإسلامي أو لنقل العربي . وهو الاختلاف في المفهوم .
ففي الغرب , مفهوم السياسة هو " فن إدارة الصراع " وأدواته هما " الممكن والمتاح " وأكبر نظرياته وأكثرها تطبيقا هي الميكيافلية التي تقول " الغاية تبرر الوسيلة "
أما لدينا في الإسلام , فالسياسة هي " التدريب والرعاية" , ولذا نقول " ساس الخيل " , كما يسمى تعليم الأطفال ب " سياسة الأطفال " وأدواته هما " الحق وأخلاق " ونظرياته تنبع من القرآن الكريم , كـ "العدل والإحسان" . بالطبع هذا نظريا , ولكن للأسف التطبيق خاطئ في عالمنا , فتحولت أحيان كثيرة إلى الحق الإلهي , وأصبح مفهوم درء الفتنة , وطاعة ولي الآمر , هما أهم أدوات السياسة .
تطور مفهوم السياسة الغربي , فدخل عليه ما نسميه "الرأي العام" و "قوة الشعب" من خلال الانتخابات ومن خلال " الرقابة الشعبية " , مما جعل فن إدارة الصراع يلتزم بما تمليه عليه قوة الرأي العام أثناء أدارته للصراع السياسي .
أما في العالم الإسلامي , فاستوردنا هذا المفهوم وأضفنا إليه مفاهيم مسيحية آخري , وهما "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر" . و نظرية "الحق الإلهي للحاكم " , وهما مفهومان غريبان العقل العربي .
وهنا , ومن خلال مفهومنا الغربي " المطعم " للسياسة بدأنا نسمع عن أسلمه السياسة , وتسييس الإسلام .
إذا كنا نتكلم عن أسلمه السياسة , وأن السياسة غريبة عن الإسلام كما يقول هؤلاء المتخوفون منها فلنسألهم عن بعض أمور .
- هل العهود والمواثيق التي يكاد يعقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود والمشركين كانت عقود سياسية أم لا ؟
- هل الغزوات التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم طوال حياته كانت تدخل ضمن المفهوم السياسي للدولة أم لا ؟
- هل إرسال النبي صلى الله عليه وسلم للرسل وتوليته للولاة على بعض المناطق ، واستخلافه لأحد الصحابة على المدينة عند خروجه للحرب أو للحج ، وصلح الحديبية ، هل كل ذلك سياسة أو ماذا ؟
- هل الأحاديث النبوية التي وردت بالطاعة , وأخذ الرسول للبيعة عليها أمر سياسي أم لا ؟
- هل تولية المسلمين لخليفة يقودهم وتولى أمورهم , حتى قبل أن يدفن المصطفى صلى الله عليه وسلم أمر سياسي فهمه الصحابة وعرفوا أهميته أم لا ؟
كل هذه الأمور هي أمور سياسية , فلذا لزاما علينا أن نقول أن السياسة موجودة ضمن المفاهيم الإسلامية ,
لذا يجب أن يعطى مفهوم " أسلمه السياسة " معنى آخر غير ما يحاول البعض أن يثيره , يجب أن يكون معنى هذا المفهوم هو "إعادة مفهوم التدريب والإصلاح والرعاية الى السياسة , وان تكون أدواته الحق والعدل , وأن يبتعد عن المفهوم الغربي الشائع للسياسة , هذا المفهوم الذي جعل السياسة مرادف للكذب والخداع والغش والتدليس .
أما العبارة الشائعة الثانية , وهو" تسييس الإسلام" , فهذا المفهوم هو الذي يجب أن يحارب , لأن معناه هو إستخدام الإسلام ضمن "المتاح والمتوفر" من الأدوات السياسية , وأداة من أدوات إدارة الصراع , فمن لا ينتخب فلان فهو عاصٍ لله سبحانه وتعالى , ومن يقول لا للموضوع الفلاني فهو كافرٍ بالله , ومن اختار هذا فهو في النار, ومن أختار ذاك فهو الجنة , وتبدأ الأحزاب والمشايخ بتوزيع صكوك الغفران لمن يتبع هذا أو يطيع ذاك . ويجعل من الإسلام مطية للسياسة ,محقق لأغراض السياسيين .
مثل هذا المفهوم يجب محاربته , فليس هنالك حق الهي لشخص أو حزب أو مجموعة , أنما أمر المسلمين شورى بينهم , وخطوط الإسلام العريضة هي دستورهم , والحق والعدل هي أدواتهم . و يعترف الإسلام بأمكانية حدوث النزاع بين الحاكم والمحكوم , بقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ " وفي الآية الكريمة ملحوظتان , الأولى تكرار الطاعة لله وللرسول وعطف أولى الآمر على الرسول , مما يعطي معنى أن طاعتهم هي في ما أطاعوه فيه , والثانية أن الرد يكون لله وللرسول فقط , مما يوضح أن النزاع يكون بين أولي الآمر وبين المؤمنين المخاطبين بالآية ,
ورحم الله خلفاء المسلمين ورضي عنهم عرفوا هذا وكثيرا ما رددوا في خطبهم " أطيعوني ما أطعت الله فيكم "
نعم لأسلمه السياسة ولا لتسييس الإسلام . هذه هي خلاصة القول .
هل الإسلام أشمل من السياسة وأوسع أم العكس ؟
ورد هذا السؤال كثيرا , وأقول , إن السياسة هي الحياة , والإسلام هو منهج الحياة , فالحياة الإنسانية مرتبطة ارتباط وثيق بالسياسة , ونرى كل مجموعة من المجموعات وكل دولة من الدول تعيش وتنموا وتزدهر أو تتخلف وتضعف بسبب السياسة , تتأثر بنجاحات وبأخطاء الساسة وشواهد ذلك كثيرة .
ولكن المقارنة بين الإسلام والسياسة خاطئ فهما يختلفان , فالإسلام يشمل نواحي سياسية ويعطيها قوانين أساسية , ويتداخل معها في أمور , ولكن هناك أمور أخرى سكت عنها الإسلام في السياسة , فلم يبلغنا بأساليب الحكم ولا باختيار الحاكم ولا بطرق محاسبته , وأمور أخرى كثيرة , بينما في السياسة لا توجد إجابة عن الحياة والموت الإلوهية والربوبية والعبادة والأخلاق الإنسانية ,
ولهذا لا يمكن عقد مقارنة بين الإسلام والسياسة ,
قد يمكننا عقد مقارنة بين مفهوم السياسة في الإسلام ومفهومها في الغرب , ولكن ليس بين كامل السياسة وكامل الإسلام .
وعلى طريق الحرية والكرامة نلتقي
صالح بن عبدالله السليمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
; أتمنى لكم قراءة ممتعة مفيده
أرحب بكل أرآكم ومقترحاتكم يرجى ذكر الاسم أو الكنية للإجابة - ونأسف لحذف أي تعليق
لا علاقة له بموضوع المقال
لا يلتزم بالأخلاق ااو الذوق العام